البِدعَةُ في الدِّينِ تَعريفُها
البِدعَةُ في الدِّينِ تَعريفُها .... حُكمُها وأَقسامُها
الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ لَهُ الفَضلُ ولَهُ الثَّناءُ الحسَنُ وصَلَّى اللهُ على سَيِّدِنا محمّدٍ وعلى ءالِهِ وصَحبِهِ الطّاهِرينَ.
اعلَم أَنَّ البِدعَةَ لُغَةً ما أُحدِثَ على غَيرِ مِثالٍ سابِقٍ، يُقالُ: جِئتُ بِأَمرٍ بَديعٍ أَي مُحدَثٍ عَجيبٍ لم يُعرَفْ قَبلَ ذَلِكَ. وفي الشّرعِ المحدَثُ الّذي لم يَنُصَّ عَلَيهِ القُرءانُ ولا جاءَ في السُنَّةِ. قالَ ابنُ العَرَبي: "لَيسَتِ البِدعَةُ والمحدَثُ مَذمومَينِ لِلَفظِ بِدعَةٍ ومحدَثٍ ولا معناهما، وإِنّما يُذَمُّ مِنَ البِدعَةِ ما يخالِفُ السُنَّةَ، ويُذَمُّ مِنَ المحدَثاتِ ما دعا إِلى الضَّلالَةِ" ا.هـ
أَقسـامُ البِدعَةِ:
والبِدعَةُ تَنقَسِمُ إِلى قِسمَينِ:
بِدعَةِ ضَلالَةٍ: وهِيَ المحدَثَةُ المخالِفَةُ للقُرءانِ والسُنَّةِ.
وبِدعَةِ هُدًى: وهِيَ المحدَثَةُ الموافِقَةُ للقُرءانِ والسُنَّةِ.
وهذا التَّقسيمُ مَفهومٌ مِن حَديثِ البُخارِيِّ ومُسلِمٍ عَن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قالَت: قالَ رَسولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "مَن أَحدَثَ في أَمرِنا هذا ما لَيسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ" وَرواهُ مُسلِمٌ بِلَفظٍ ءاخَرَ وهو "مَن عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنا فَهو رَدٌّ" فَأَفهَمَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ بِقَولِهِ:"ما لَيسَ مِنه" أَنَّ المحدَثَ إِنَّما يَكونُ رَدًّا أَي مَردودًا إِذا كانَ على خِلافِ الشَّريعَةِ، وأَنَّ المحدَثَ الموافِقَ للشَّريعَةِ لَيسَ مَردودًا.
وهَو مَفهومٌ أَيضًا مِمّا رواهُ مُسلِمٌ في صَحيحِهِ مِن حَديثِ جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ البَجَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنّهُ قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: "مَن سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجرُها وأَجرُ مَن عَمِلَ بها بَعدَهُ مِن غَيرِ أَن يَنقُصَ مِن أُجورِهِم شَىءٌ، ومَن سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كانَ عَلَيهِ وِزرُها وَوِزرُ مَن عَمِلَ بها مِن بَعدِهِ مِن غَيرِ أَن يَنقُصَ مِن أَوزارِهِم شَىءٌ".
وَأَخرَجَ البُخارِيُّ في صَحيحِهِ عَن رِفاعَةَ بنِ رافِعٍ الزّرقيِّ قالَ: كُنّا يومًا نُصَلّي وَراءَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، فَلَمّا رَفَعَ رَأسَهُ مِن الرَّكعَةِ قالَ: "سمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه" قالَ رَجُلٌ وراءَهُ: رَبَّنا ولَكَ الحمدُ حَمدًا كَثيرًا طيِّبًا مُبارَكًا فيهِ، فَلَمّا انصَرَفَ قالَ: "مَن المتَكَلِّمُ" قالَ: أَنا، قالَ: "رَأَيتُ بِضعَةً وثَلاثينَ مَلَكًا يَبتَدِرونها أَيُّهُم يَكتُبُها أَوَّلَ".
قالَ ابنُ حَجَرٍ في الفَتحِ في شَرحِ هذا الحديثِ: واستُدِلَّ بِهِ على جوازِ إِحداثِ ذِكرٍ في الصَّلاةِ غَيرِ مَأثورٍ إِذا كانَ غَيرَ مخالِفٍ للمَأثورِ.اهـ ورَوى أَبو داودَ عَن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أَنّهُ كانَ يَزيدُ في التَّشَهُّدِ "وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ" ويَقولُ أَنا زِدتُها اهـ.
وقالَ النَّوَوِيُّ في كِتابِ " تهذيبُ الأَسماءِ و اللُّغاتِ" ما نَصُّهُ: "البِدعَةُ بِكَسرِ الباءِ في الشَّرعِ هِيَ إِحداثُ ما لَم يَكُن في عَهدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، وهِيَ مُنقَسِمَةٌ إِلى حَسَنَةٍ وقَبيحَةٍ. قالَ الإِمامُ الشَّيخُ المجمَعُ على إِمامَتِهِ وجلالَتِهِ وتمكُّنِهِ في أَنواعِ العُلومِ وبَراعَتِهِ أَبو محمّدٍ عَبدُ العَزيزِ بنُ عَبدِ السَّلامِ رَحمَهُ اللهُ ورَضِيَ عَنهُ في ءاخِرِ كِتابِ القَواعِدِ: البِدعَةُ مُنقَسِمَةٌ إِلى واجِبَةٍ ومحرَّمَةٍ ومَندوبَةٍ ومَكروهَةٍ ومُباحَةٍ، قالَ والطّريقُ في ذَلِكَ أَن تُعرَضَ البِدعَةُ على قَواعِدِ الشَّريعَةِ، فَإِن دَخَلَت في قواعِدِ الإِيجابِ فَهِيَ واجِبَةٌ، أَو في قواعِدِ التَّحريمِ فَمُحَرَّمَةٌ، أَو النَّدبِ فَمَندوبَةٌ أَو المَكروهِ فَمكروهَةٌ، أَو المُباحِ فَمُباحَةٌ.اهـ كَلامُ النَّووِيِّ.
وقالَ ابنُ عابِدينَ في "رَدُّ المُحتارِ"ما نَصُّهُ: " فَقَد تَكونُ البِدعَةُ واجِبَةً كَنَصبِ الأَدِلَّةِ للرَّدِّ على أَهلِ الفِرَقِ الضّالَّةِ، وتَعَلُّمِ النَّحوِ المُفهِمِ للكِتابِ والسُنَّةِ، ومَندوبَةً كإِحداثِ نحوِ رِباطٍ ومَدرَسَةٍ وكُلِّ إِحسانٍ لم يَكُن في الصَّدرِ الأَوَّلِ، ومَكروهَةً كَزَخرَفَةِ المساجِدِ، ومُباحَةً كالتَّوسُعِ بِلَذيذِ المآكِلِ والمشارِبِ والثِّيابِ" اهـ ورَوى البَيهَقِيُّ بِإِسنادِهِ في مَناقِبِ الشّافِعِيِّ عَن الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: "المحدَثاتُ في الأُمورِ ضَربانِ: أَحدُهما ما أُحدِثَ ممّا يخالِفُ كِتابًا أَو سُنَّةً أَو أَثَرًا أَو إِجماعًا، فهذِهِ البِدعَةُ الضَّلالَةُ، والثَّانِيَةُ: ما أُحدِثَ مِنَ الخَيرِ لا خِلافَ فيهِ لِواحِدٍ مِن هذا، وهذِهِ محدَثَةٌ غَيرُ مَذمومَةٍ".
مِنَ البِدَعِ المُستَحَبَّةِ:
قالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى في كِتابِهِ العَزيزِ: ﴿وجَعَلنا في قلوبِ الّذينَ اتَّبَعوهُ رَأفَةً ورَحمَةً ورَهبانِيَّةً ابتَدعوها ما كَتَبناها عَلَيهِم إِلاّ ابتِغاءَ رِضوانِ اللهِ﴾ سورة الحديد/ 27 . فَهذِهِ الآيَةُ يُستَدَلُّ بها على البِدعَةِ الحسَنَةِ، لأَنَّ مَعناها مَدحُ الّذينَ كانوا مِن أُمَّةِ عيسى المُسلِمينَ المؤمِنينَ المُتَّبِعينَ لَهُ عَلَيهِ السَّلامُ بِالإيمانِ والتَّوحيدِ، فَاللهُ تَعالى مَدَحَهُم لأَنهم كانوا أَهلَ رَأفَةٍ ورَحمَةٍ ولأَنهم ابتَدَعوا رَهبانِيَّةً، والرَّهبانِيَّةُ هِيَ الانقِطاعُ عَن الشَّهَواتِ حتى إِنهم انقَطَعوا عَنِ الزِّواجِ رَغبَةً في تجَرُّدِهِم للعِبادَةِ. فَمَعنى قَولِهِ تَعالى ﴿ما كَتَبناها عَلَيهِم﴾ أَي نحن ما فَرَضناها عَلَيهِم إِنّما هُم أَرادوا التَّقَرُّبَ إِلى اللهِ، فَاللهُ تَعالى مَدَحَهُم على ما ابتَدَعوا ممّا لم يُنَصَّ لهم عَلَيهِ في الإنجيلِ ولا قالَ لهم المَسيحُ بِنَصٍّ مِنهُ، إِنما هُم أَرادوا المُبالَغَةَ في طاعَةِ اللهِ تَعالى والتَّجَرُّدَ بِتَركِ الانشِغالِ بِالزِّواجِ ونَفَقَةِ الزَّوجَةِ والأَهلِ، فَكانوا يَبنونَ الصَّوامِعَ أَي بُيوتًا خَفيفَةً مِن طينٍ أَو مِن غَيرِ ذَلِكَ على المواضِعِ المُنعَزِلَةِ عَن البَلَدِ لَيَتَجَرَّدوا للعِبادَةِ.
سَنُّ خُبَيبٍ رَكعتَينِ عِندَ القَتلِ
ومِنَ البِدَعِ المُستَحَبَّةِ إِحداثُ خُبَيبِ بنِ عَدِي رَكعَتَينِ عِندَما قُدِّمَ للقَتلِ، كَما جاءَ ذَلِكَ في صَحيحِ البُخارِيِّ، فَفيهِ ما نَصُّهُ:
وكانَ خُبيبٌ هُو قَتَلَ الحارِثَ يومَ بَدرٍ، فَمَكَثَ عِندَهُم أَسيرًا حتى إِذا أَجمَعوا قَتلَهُ استَعارَ موسى مِن بَعضِ بَناتِ الحارِثِ لِيستَحِدَّ بها فَأَعارَتهُ، قالَت: فَغَفِلتُ عَن صَبِيٍّ لي فَدَرَجَ إِلَيهِ حتى أَتاهُ فَوَضَعَهُ على فَخِذِهِ فَلَمّا رَأيتُهُ فَزِعتُ فزعَةً عَرَفَ ذَلِكَ مِني وفي يَدِهِ الموسى فَقالَ: أَتخشَيْنَ أَن أَقتُلَهُ ؟ ما كُنتُ لأَفعَلَ ذاكَ إِن شاءَ اللهُ، وكانَت تَقولُ: ما رَأيتُ أَسيرًا قَط خَيرًا مِن خُبَيبٍ، لَقَد رَأَيتُهُ يَأكُلُ من قِطفِ عِنَبٍ وما بمَكَّةَ يَومَئِذٍ ثَمَرَةٌ وإِنّهُ لَمُوثَقٌ في الحديدِ، وما كانَ إِلاّ رِزقًا رَزَقَهُ اللهُ، فَخَرَجوا بِهِ مِنَ الحَرَمِ لِيَقتُلُوهُ، فَقالَ: دَعوني أُصَلِّي رَكعَتَينِ، ثمَّ انصَرَفَ إِلَيهِم فَقالَ: لَولا أَن تَرَوا أَنَّ ما بي جَزَعٌ مِنَ المَوتِ لَزِدتُ، فَكانَ أَوَّلَ مَن سَنَّ الرَّكعَتَينِ عِندَ القَتلِ هو، ثمّ قالَ:
فَلَستُ أُبالي حينَ أُقتَلُ مُسلِمًا
* * * على أَي شِقٍّ كانَ للهِ مَصرَعي
وذَلِكَ في ذاتِ الإِلَهِ وإِن يَشَأْ
* * * يُبارِكْ على أَوصالِ شِلوٍ مُمَزَّعِ
ثمَّ قامَ إِلَيهِ عُقبَةُ بنُ الحرِثِ فَقَتَلَهُ وبَعَثَت قُرَيشُ إِلى عاصِمٍ لِيُؤتوا بِشَىءٍ مِن جَسَدِهِ يَعرِفونَهُ، وكانَ عاصِمٌ قَتَلَ عظيمًا مِن عُظمائِهِم يَومَ بَدرٍ، فَبَعَثَ اللهُ عَلَيهِ مِثلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتهُ مِن رُسُلِهِم، فَلَم يَقدِروا مِنهُ على شَىءٍ" اهـ
نَقطُ يحيى بنِ يَعمُرَ المصاحِفِ
ومِنَ البِدَعِ المُستَحَبَّةِ: نَقطُ المصاحِفِ وكانَ الصَّحابَةُ الّذينَ كَتَبوا الوحي الّذي أَملاهُ عَلَيهِم الرَّسولُ يَكتُبونَ الباءَ والتّاءَ ونحوَهما بِلا نَقطٍ، ثمّ عُثمانُ بنُ عَفّانَ لَما كَتَبَ سَتَّةَ مَصاحِفَ وأَرسَلَ بِبَعضِها إِلى الآفاقِ إِلى البَصرَةِ ومَكََّةَ وغَيرِهما واستَبقى عِندَهُ نُسخَةً كانَ غَيرَ مَنقوطٍ. وإِنما أَوَّلُ مَن نَقَطَ المصاحِفَ رَجُلٌ مِنَ التّابِعينَ مِن أَهلِ العِلْمِ والفَضْلِ والتَّقوى يُقالُ له يحيى بنُ يَعمُرَ. فَفي كِتابِ المصاحِفِ لابنِ أِبي داودَ السَجِستانيِّ ما نَصُّهُ "حَدَّثَنا عَبدُ اللهِ، حَدَّثَنا محمّدُ بنُ عَبدِ اللهِ المَخزومِيُّ، حَدَّثَنا أَحمَدُ بنُ نَصرِ بنِ مالِكٍ، حَدَّثَنا الحسينُ بنُ الوليدِ، عَن هارونَ بنِ موسى قالَ: "أَوَّلُ مَن نَقَطَ المصاحِفَ يحيى بنُ يَعمُرَ" اهـ، وكانَ قَبلَ ذَلِكَ يُكتَبُ بِلا نَقطٍ. فَلَمّا فَعَلَ هذا لم يُنكِرِ العُلَماءُ عَلَيهِ ذَلِكَ، مَع أَنَّ الرَّسولَ ما أَمَرَ بِنَقطِ المُصحَفِ.
زِيادَةُ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَذانًا ثانِيًا يَومَ الجُمُعَةِ
وهذِهِ بِدعَةٌ أَحدَثَها عُثمانُ بنُ عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَفي صَحيحِ البُخارِيِّ ما نَصُّهُ: حَدَّثَنا ءادَمُ قالَ: حَدَّثَنا ابنُ أَبي ذِئبٍ عَن الزُّهرِيِّ عَن السّائِبِ بنِ يَزيدٍ قالَ:" كانَ النِّداءُ يَومَ الجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذا جَلَسَ الإِمامُ على المِنبرِ، على عَهدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ وأَبي بَكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، فَلَمّا كانَ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وكَثُرَ النّاسُ زادَ النِّداءَ الثّالِثَ على الزَّوراءِ" اهـ.
الجَهرُ بِالصَّلاةِ على النَّبيِّ بَعدَ الأَذانِ
ومِنَ البِدَعِ المُستَحَبَّةِ: الجَهرُ بِالصَّلاةِ على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ بَعدَ الأَذانِ، وحَدَثَ هذا بَعدَ سَنَةِ سَبعِمائةٍ، وكانوا قَبلَ ذَلِكَ لا يَجهَرونَ بها.
ومِنها كِتابةُ "صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ" عِندَ كِتابَةِ اسمِهِ، ولَم يَكتُبِ النَّبيُّ ذَلِكَ في رَسائِلِهِ الّتي أَرسَلَ بها إِلى المُلوكِ والرُّؤساءِ وإِنما كانَ يَكتُبُ مِن محمّدٍ رَسولِ اللهِ إِلى فُلانٍ.
ومِنَ البِدَعِ المُستَحَبَّةِ: الطُّرقُ الّتي أحَدَثَها بَعضُ أَهلِ اللهِ كالرِّفاعِيَّةِ والقادِرِيَّةِ وهِي نحو أَربَعينَ، فَهذِهِ الطُّرُقُ أَصلُها بِدَعٌ حَسَنَةٌ، ولكِن شَذَّ بَعضُ المُنتَسِبينَ إِليها وهذا لا يَقدَحُ في أَصلِها.
جوازُ الاحتِفالِ بِالمولِدِ الشَّريفِ
ومِنَ البِدَعِ الحسَنَةِ الاحتِفالُ بمولِدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ فهذا العَمَلُ لم يَكُن في عَهدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ولا فيما يَليهِ إِنما أُحدِثَ في أَوائِلِ القَرنِ السّابِعِ الهِجرِيِّ، وأَوَّلُ مَن أَحدَثَهُ مَلِكُ إِربِلَ، وكانَ عالِمًا تَقِيًّا شُجاعًا يُقالُ لَهُ المُظَفَّرُ، جمَعَ لهذا كثيرًا مِنَ العُلَماءِ فيهِم مِن أَهلِ الحديثِ والصّوفِيَّةِ الصّادِقينَ. فاستَحسَنَ ذَلِكَ العَمَلَ العُلَماءُ في مَشارِقِ الأَرضِ ومَغارِبها.
وللحافِظِ السُّيوطِيِّ رِسالَةٌ سمّاها "حُسنُ المَقصِدِ في عَمَلِ المولِدِ" قالَ: "إِنَّ أَصلَ عَمَلِ المولِدِ الّذي هو اجتِماعُ النّاسِ، وقِراءَةُ ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرءانِ، ورِوايِةُ الأَخبارِ الوارِدَةِ في مَبدَإِ أَمرِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ وما وَقَعَ في مَولِدِهِ مِنَ الآياتِ ثمَّ يُمَدُّ لهم سِماطٌ يَأكلونَهُ ويَنصَرِفونَ مِن غَيرِ زِيادَةٍ على ذَلِكَ هو مِنَ البِدَعِ الحَسَنَةِ الّتي يُثابُ عَلَيها صاحِبُها لِما فيهِ مِن تَعظيمِ قَدرِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ وإِظهارِ الفَرَحِ والاستِبشارِ بمولِدِهِ الشَّريفِ. وأَوَّلُ مَن أَحدَثَ فِعلَ ذَلِكَ صاحِبُ إِربِلَ الملِكُ المُظََفَّرُ.
وقالَ ابنُ كَثيرٍ في تاريخِهِ: "كانَ يَعمَلُ المولِدَ الشَّريفَ ـ يَعني الملِكَ المُظَفَّرَ ـ في رَبيعِ الأَوَّلِ ويحتَفِلُ بِهِ احتِفالاً هائِلاً، وكانَ شَهِمًا شُجاعًا بَطَلاً عاقِلاً عالِمًا عادِلاً رَحمَهُ اللهُ وأَكرَمَ مَثواهُ. قالَ: وقَد صَنَّفَ لَهُ الشَّيخُ أَبو الخطّابِ بنُ دَحيةَ مجلَّدًا في المولِدِ النَّبَوِيِّ سمّاهُ "التَّنويرُ في مَولِدِ البَشيرِ النَّذير" فَأَجازَهُ على ذَلِكَ بِأَلفِ دينارٍ، وقَد طالَت مُدَّتُهُ في المُلكِ إِلى أَن ماتَ وهو محاصِرٌ للفَرَنجِ بمدينَةِ عكّا سَنَةَ ثلاثينَ وسِتِمائةٍ، محمودَ السِّيرَةِ والسَّريرَةِ " اهـ.
ويَذكُرُ سِبطُ ابنِ الجَوزِيِّ في "مِرءاةُ الزَّمانِ" أَنّهُ كانَ يحضُرُ عِندَهُ في المَولِدِ أَعيانُ العُلَماءِ والصّوفِيَّةِ.
وقالَ السُّيوطِيُ: "وقَد استَخرَجَ لَهُ ـ أَي المولِدِ ـ إِمامُ الحُفّاظِ أَبو الفَضْلِ أَحمَدُ بنُ حَجَرٍ أَصْلاً مِنَ السُنَّةِ، واستَخرَجتُ لَهُ أَصْلاً ثانِيًا".
فَتَبَيَّنَ مِن هذا أَنَّ الاحتِفالَ بِالمولِدِ النَّبَوِيِّ بِدعَةٌ حَسَنَةٌ فَلا وَجهَ لإِنكارِهِ، بَل هُو جَديرٌ بِأَن يُسَمّى سُنَّةً حَسَنَةُ لأَنَّهُ مِن جملَةِ ما شَمَلَهُ قَولُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "مَن سَنَّ في الإَسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجرُها وأَجرُ مَن عَمِلَ بها بَعدَهُ لا يَنقُصُ مِن أُجورِهِم شَىءٌ".